محاكاة الأصوات للمعاني
“الألفاظ مشاكلة للمعاني التي هي أرواحها يتفرَّس الفطن فيها حقيقة المعنى بطبعه وحسه، كما يتعرَّفُ الصادق الفراسةِ صفاتَ الأرواح في الأجساد من قوالبها بفطنته . وقلت يوما لشيخنا أبي العباس بن تيمية – قدس الله روحه – قال ابن جنِّي : مكثت بُرْهةً إذا ورد علي لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجَرْسه وكيفية تركيبه، ثم أكشفه ؛ فإذا هو كما ظننته أو قريباً منه فقال لي رحمه الله : “وهذا كثيرا ما يقع لي . وتأمل حرف ” لا ” كيف تجدها “لاما” بعدها “ألف” يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس ؛ فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها و”لن” بعكس ذلك فتأمله فإنه معنى بديع”. ( بدائع الفوائد ١٦٦ ) قلتُ: هذا ذوق بياني رفيع تلمسه أرباب المعاني من بيان العربية؛ كما تدب الأرواح بخفاء، في أجسام الأحياء! وأين هذا من ثقالة الطبع وبلادته في أعجمي الكلام، وذوق فلاسفتها، إذ يقرر عالم اللغة السويسري دوسوسير إن العلاقة بين الدال والمدلول والصوت والمعنى علاقة اعتباطية؛ وهو إنما كان يصف لغته التي عرفها؛ وفقد فيها هذه الروح الخفية، التي تسري بين فهوم المعاني من عربية اللسان. وتلقفت مقولته آذان الببغاوات المفتونة بسراب المعرف…