في مدينة باغتها المطر خلال وقت وجيز، لم يعد كافياً تفسير ما جرى بعوامل طبيعية فقط، بقدر ما بات السؤال الملح يتمحور حول كيفية تحوّل تساقطات فجائية إلى مأساة جماعية بهذا الحجم، ومن يتحمل مسؤولية ما بعد الطبيعة.
وحسب معطيات وزارة الداخلية، أسفرت الفيضانات التي أعقبت أمطاراً طوفانية عن 37 وفاة على الأقل، إلى جانب نقل 14 مصاباً إلى المستشفى، وغمر حوالي 70 منزلاً ومحلاً تجارياً، وجرف 10 سيارات. أرقام تعكس حجم الصدمة التي تلقتها مدينة تعاني بعض أحيائها من هشاشة واضحة في شبكات تصريف مياه الأمطار.
وبحسب رواية السلطات المحلية، فقد شهدت آسفي أمطاراً رعدية شديدة خلال فترة لا تتجاوز ساعة، قبل أن تتحول إلى تدفقات فيضانية استثنائية، خاصة في المدينة القديمة. وفي مثل هذه الظروف، يكفي وقت قصير لتحويل الأزقة إلى مجارٍ مائية، حين تعجز القنوات عن استيعاب الكميات المتدفقة.
ما يميز ما حدث في آسفي ليس فقط شدة السيول، بل التطور المتسارع للحصيلة البشرية. فقد بدأت الأرقام منخفضة، قبل أن ترتفع تدريجياً مع استمرار عمليات البحث والإنقاذ، ما يبرز أهمية “الساعة الأولى” في الكوارث، حيث لا تظهر كل الخسائر البشرية دفعة واحدة.
وفي سياق التدابير الاحترازية، قررت السلطات تعليق الدراسة، في خطوة عكست حجم الاضطراب الذي عرفته المدينة، وتحولها فعلياً إلى وضع طوارئ، حيث بات التنقل محفوفاً بالمخاطر.
ميدانياً، أكدت مصادر محلية استمرار مشاهد الدمار في عدد من الأحياء، خاصة بالمدينة القديمة ومحيط شارع بير أنزران وأبو الذهب، حيث غمرت المياه المنازل والمحلات، وجُرفت سيارات، وانقطعت بعض المحاور الطرقية.
ويكتسي قرار النيابة العامة بفتح تحقيق دلالة خاصة، إذ لم يُختزل ما جرى في كونه “حادثاً طبيعياً”، بل جرى الحديث عن كشف “الظروف والملابسات”، ما يفتح الباب أمام بحث محتمل في قضايا مرتبطة بالتعمير، وصيانة قنوات الصرف، ورصد النقط السوداء، وجاهزية الإنذار والتدخل.
من جانبه، أوضح الخبير في المناخ والهندسة الهيدرولوجية محمد بنعبو أن ما وقع لا ينفصل عن سياق مناخي عام، حيث أدت سنوات الجفاف إلى تصلّب التربة وفقدانها قدرتها على امتصاص المياه، ما يجعل الأمطار القصيرة والعنيفة تتحول بسرعة إلى سيول جارفة. لكنه شدد في المقابل على أن هذا العامل لا يمكن أن يكون مبرراً لحجم الخسائر، مؤكداً أن التغير المناخي يفرض مراجعة التخطيط الحضري وتحديث البنيات التحتية واحترام المسارات الطبيعية للمياه.
وفي آسفي، يتقاطع العامل المناخي مع إشكالات عمرانية قديمة، إذ إن المدينة القديمة غير مهيأة لاستقبال أمطار قصوى، كما أن التوسع العمراني ضغط على مجالات كانت تشكل متنفساً طبيعياً لتصريف المياه. لذلك، لا تبدو الكارثة مفاجئة من حيث منطقها، بقدر ما يظل حجمها هو الصادم.
ويبقى الرهان اليوم على ما سيسفر عنه التحقيق القضائي، وما إذا كان سيتحول إلى مدخل فعلي لمساءلة الاختيارات التي راكمت هشاشة المدينة، لأن فرق الإنقاذ قد تنقذ الأرواح، لكنها لا تستطيع وحدها إصلاح اختلالات عمرانية تراكمت على مدى سنوات.
