تتجاوز فضيحة صفقات الأدوية كونها مجرد خلل تقني أو سوء تدبير إداري؛ إذ تحوّلت اليوم إلى أزمة سياسية مكتملة المعالم داخل حكومة رفعت شعار محاربة تضارب المصالح، قبل أن تجد نفسها متورطة في قلبه، في مشهد يوحي بأن الوطن يُدار بمنطق شركة خاصة تتقاسم أسهمها أطراف داخل الجهاز نفسه.
شرارة الانفجار انطلقت من قبة البرلمان، بعدما كشف عبد الله بوانو أرقاماً صادمة حول ما وصفه بـ "التغوّل الصامت" لشركة أدوية ترتبط بوزير داخل الحكومة. الأرقام لا تقبل التأويل: عشرات ملايين الدراهم سنة 2024، وقفزة أكبر سنة 2025 بلغت 32 مليون درهم من الوزارة نفسها، و50 مليون درهم من المستشفيات الجامعية.
هذه ليست معطيات إدارية عابرة، بل مؤشرات على منظومة تعيد إنتاج الفساد بطرق أكثر نعومة وأكثر حماية، تحت غطاء المراسيم والقوانين.
لكن الصدمة الكبرى لم تكن في الأرقام وحدها، بل في ردّة الفعل. فبمجرد شروع البرلمان في الدفع نحو تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، وهو حق دستوري صريح، سارعت النيابة العامة إلى فتح تحقيق. خطوة قد تبدو في ظاهرها تجاوباً قضائياً، لكنها في جوهرها ـ كما يراها بوانو وآخرون ـ آلية جاهزة لتعطيل الرقابة البرلمانية، بحكم أن الدستور يجمّد عمل لجان التحقيق بمجرد فتح ملف قضائي، ولو بلا آجال واضحة.
إننا أمام معادلة خطيرة: يكفي إطلاق تحقيق دون سقف زمني، لتعطيل واحدة من أقوى أدوات الرقابة الديمقراطية.
وهنا تبرز أسئلة جوهرية لا يمكن تجاهلها:
هل أصبحت السلطة القضائية تُستخدم لتوفير مظلة حماية للسلطة التنفيذية؟
ولماذا تتكرر هذه “الصدف” كلما اقترب البرلمان من ملفات متفجرة؟
أما رد وزير الصحة، أمين التهراوي، فجاء ليزيد الغموض بدل توضيحه، قائلاً إن “الصفقات تُمنح للشركات وليس للأشخاص”؛ جملة تكشف نظرة اختزالية لتضارب المصالح، وكأن الأمر مجرد تفصيل أخلاقي بسيط لا يتجاوز حدود الانزعاج.
كيف يمكن لحكومة تحترم نفسها أن تتعامل بخفة مع ملف حساس كهذا؟
وكيف يتحول قطاع الصحة العمومية إلى فضاء تُبرَّر داخله الصفقات كأنها جزء من نشاط تجاري عادي؟
وما الذي يعنيه أن يدير قطاعاً حساساً وزير جاء من عالم التسويق، وآخر قادم من صناعة الحلويات يتولى مسؤولية التعليم، بينما تتقاطع الصفقات بين وزاراتهم؟
الصورة اليوم تبدو واضحة: حكومة تُدار بمنطق السوق المغلق، تتبادل داخله المصالح والمنافع، بينما يبقى البرلمان والمعارضة والرأي العام… مجرّد متفرجين على الهامش.
ما يجري لم يعد “شبهة فساد”، بل مؤشر على انهيار مفهوم المسؤولية السياسية.
الصفقات تُمنح خارج أي مساءلة، والبرلمان يُقصى بطريقة قانونية ملتوية، والقضاء يتحول إلى جدار عازل، والوزراء يقدمون تبريرات تُعمّق الشك بدل أن تبدده.
وإذا كان البعض يعتقد أن السلطة توفر حصانة دائمة، فعليهم أن يتذكروا أن الفضائح لا تموت، خصوصاً حين ترتبط بالصحة العمومية، وتمسّ المال العام، وتنسف مصداقية حكومة ترفع شعار “الدولة الاجتماعية”.
الواقع القائم اليوم يقول شيئاً واحداً:
هذه ليست حكومة كفاءة… إنها حكومة صفقات.
وكلما ازدادت محاولات إخفاء الحقيقة، اتسعت دائرة الفضيحة.
