لم تكن فاجعة وفاة طفلة حديثة الولادة بطرفاية حادثًا عابرًا ولا خطأً طبيًا معزولًا، بل نتيجة منطقية لاختلال عميق ينهش منظومة صحية تُدار بعقلية سياسية، لا بروح الحق الإنساني في العلاج. فعندما تتحول المستشفيات إلى مجرد نقاط عبور، ويصبح الطريق بين طرفاية والعيون أخطر من المرض نفسه، فإن الخلل يكون بنيويًا، يبدأ من أعلى هرم القرار قبل أن يظهر في التفاصيل اليومية.
ما جرى بطرفاية يعيد إلى الواجهة واقع قطاع صحي أُثقل كاهل ملايين المغاربة، رغم ما يعانيه منذ سنوات من ضعف التجهيزات، ونقص الأطر الطبية، وغياب أقسام أساسية كالتوليد والإنعاش. طفلة فارقت الحياة داخل سيارة إسعاف، لا بسبب تعقيد حالتها، بل لأن المستشفى الإقليمي عاجز عن القيام بأبسط وظائفه.
غير أن المأساة لا يمكن اختزالها في إهمال محلي أو خلل ظرفي، بل ترتبط بمنظومة تدبير مركزية يطبعها منطق الولاءات وتدوير المقربين، أكثر مما تحكمها معايير الكفاءة والاستحقاق. وحين يُسند تدبير قطاع حيوي كالصحة لأشخاص تحيط بمساراتهم المهنية والسياسية أسئلة مشروعة، فإن الشك يصبح حقًا عامًا، لا مزايدة ولا افتراء، في بلد يدفع فيه المواطن البسيط ثمن الفشل من حياته وحياة أبنائه.
المغاربة لا يعنيهم من خدم في أي شركة، ولا من تربطه علاقة بمن، ولا من يملك مفاتيح النفوذ. ما يعنيهم هو الحصيلة: نساء يضعن مواليدهن في سيارات الإسعاف، رُضع يموتون في الطرقات، مستشفيات بلا أطباء ولا معدات، ومسؤولون يواجهون المآسي بالبلاغات واللجان.
أين هي وعود إصلاح المنظومة الصحية؟
أين هي العدالة المجالية حين تُترك مناطق كاملة دون خدمات صحية أساسية؟
وأي إصلاح يُسوّق له، إذا كان لا يصل إلى سرير المريض ولا يحمي أبسط حق في الحياة؟
غضب ساكنة طرفاية وفعاليات المجتمع المدني ليس موجّهًا ضد الأطر الطبية التي تشتغل في ظروف قاسية، بل ضد سياسة صحية اختارت أن تجعل المواطن الهش في آخر سلم الأولويات، وتعاملت مع الصحة باعتبارها عبئًا ماليًا لا استثمارًا في الكرامة الإنسانية.
إن المطالبة بتحقيق نزيه وشفاف في وفاة هذه الرضيعة ليست انفعالًا عاطفيًا، بل واجب أخلاقي وقانوني. لأن غياب المحاسبة يعني ببساطة تكرار المأساة، وسقوط ضحايا جدد في صمت.
لقد آن الأوان للاعتراف بأن أزمة الصحة في المغرب ليست فقط أزمة موارد، بل أزمة اختيارات، ورداءة تدبير، واستخفاف بأرواح الناس. فالصحة ليست امتيازًا، ولا مجالًا للمجاملات، ولا جائزة ترضية للمقربين.
صحة المغاربة حق دستوري، ومن يفرّط فيه، أو يضعه بين أيدي غير الأكفاء، يتحمل مسؤولية سياسية وأخلاقية عن كل روح أُزهقت بسبب الإهمال.
