لا يمكن اختزال إدراج المغرب ضمن قائمة كبار المستفيدين عالميًا من برنامج المواد الدفاعية الأمريكية الفائضة (EDA) في مجرد كونه عملية نقل عتاد عسكري خرج من الخدمة لدى الجيش الأمريكي. فالمعطيات التي كشفت عنها هيئة المحاسبة الأمريكية (GAO) بخصوص الفترة الممتدة بين 2020 و2024، توضح أن الأمر يتعلق بخيار استراتيجي مدروس، يضع الرباط في صلب هندسة أمنية إقليمية تعيد الولايات المتحدة رسم معالمها بهدوء.
وحسب التقرير الرسمي، صُنّف المغرب إلى جانب كل من اليونان وإسرائيل ضمن أكبر ثلاثة شركاء أجانب من حيث القيمة الجارية لعروض العتاد العسكري الفائض التي وافقت عليها واشنطن. وتراوحت القيمة المقدرة لهذه العروض بالنسبة للمغرب ما بين 139 و242 مليون دولار، في حين تمثل الدول الثلاث مجتمعة نحو 40 في المائة من إجمالي القيمة العالمية لعروض برنامج EDA خلال تلك السنوات، وهو ما يجعل حضور المغرب في هذه الدائرة استثناءً لافتًا، وليس مجرد حالة عادية.
ويُشرف على برنامج EDA كل من وزارة الدفاع الأمريكية ووزارة الخارجية، ويقوم على تحويل معدات عسكرية لم تعد ضمن الخدمة العملياتية للجيش الأمريكي إلى دول شريكة، وفق صيغة “كما هي وحيث هي”، بما يعني أن الدولة المستفيدة تتحمل تكاليف النقل والتأهيل والصيانة. ورغم أن هذه الصيغة تُفرغ مفهوم “الهبة” من بعدها المجاني الصرف، فإنها تبقى أقل تكلفة وأسرع تنفيذًا من اقتناء منظومات جديدة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمعدات الدعم اللوجستي أو التجهيزات المتوافقة مع المعايير الأمريكية.
غير أن القيمة الحقيقية لهذا البرنامج، كما يشير تقرير GAO نفسه، لا تكمن في طبيعة المعدات المحوّلة بقدر ما تكمن في الهدف الجوهري للبرنامج، والمتمثل في تعزيز قابلية التشغيل البيني بين الجيوش المستفيدة والجيش الأمريكي. وبعبارة أوضح، فإن واشنطن لا تُدرج أي دولة ضمن هذا الإطار إلا إذا اعتبرتها شريكًا قادرًا على العمل الميداني المشترك، وقابلًا للاندماج في منظومة التخطيط والتدريب والدعم اللوجستي الأمريكية.
ومن هذا المنطلق، يبدو إدراج المغرب منسجمًا مع مسار طويل من التقارب العسكري بين البلدين. فالمملكة تُصنّف منذ سنة 2004 كـ“حليف رئيسي خارج حلف شمال الأطلسي”، كما تحتضن بانتظام مناورات “الأسد الإفريقي”، التي تُعد أكبر تمرين عسكري أمريكي في القارة. وإلى جانب برنامج EDA، تشير معطيات وزارة الخارجية الأمريكية إلى وجود ملفات نشطة للمبيعات العسكرية الحكومية (FMS) مع المغرب، تفوق قيمتها 8.5 مليارات دولار، تشمل اقتناء معدات متطورة، وتدريبات، ودعمًا تقنيًا متقدمًا.
ويكشف التقرير الأمريكي أيضًا جانبًا آخر أقل تداولًا، يتعلق بمراقبة الاستخدام النهائي للعتاد المحوّل. فقد أُدرج المغرب ضمن خمس دول خضعت لتتبع معمق في هذا الإطار، إلى جانب إسرائيل واليونان وكولومبيا والفلبين، وهو ما يعني إخضاع المعدات المنقولة لملاحظات دورية، غالبًا بشكل ربع سنوي، للتأكد من استخدامها وفق الشروط المتفق عليها. ولا يُفهم هذا الإجراء باعتباره تشكيكًا، بل كمؤشر على حساسية المعدات وأهمية الشريك الذي يتلقاها.
وعلى المستوى الإجرائي، يوضح التقرير أن “العرض” لا يعني تلقائيًا “الاستلام”، إذ تمر العملية بعدة مراحل، تبدأ بطلب رسمي من الدولة الشريكة، ثم مراجعات تقنية وسياسية داخل البنتاغون ووزارة الخارجية، قبل الترخيص بعرض التحويل. وبعد ذلك، يبقى للدولة المعنية حق القبول أو الرفض، خاصة إذا تبين أن تكاليف التأهيل أو الصيانة مرتفعة. وخلال الفترة ما بين 2020 و2024، نفذت الولايات المتحدة 125 حالة تحويل ضمن برنامج EDA، أي 125 إطارًا تعاقديًا حكوميًا–حكوميًا.
وفي المحصلة، لا يعكس إدراج المغرب ضمن الشريحة العليا من هذا البرنامج فقط ثقة أمريكية في قدراته العسكرية، بل يكشف أيضًا عن رهان جيوسياسي واضح، يتمثل في تعزيز موقع الرباط كفاعل أمني محوري في شمال إفريقيا وغرب المتوسط، في سياق إقليمي يتسم بتصاعد عدم الاستقرار في منطقة الساحل، واحتدام المنافسة بين القوى الكبرى على النفوذ العسكري.
وبهذا المعنى، فإن “العتاد الفائض” لا يُعد فائضًا سياسيًا، بل أداة من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، تُستخدم لفرز الشركاء، وترتيب الأولويات، وبناء تحالفات عملية بأقل كلفة وأعلى مردودية. والمغرب، وفق الأرقام والمعطيات الرسمية، بات اليوم جزءًا فاعلًا من هذه المعادلة أكثر من أي وقت مضى.
وفي هذا السياق، يحذر الباحث في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، أنور العباسي، من اختزال برنامج EDA في بعده الداعم فقط، معتبرًا أنه يُمثل في جوهره أداة لضبط اتجاهات التسلح لدى الحلفاء، أكثر مما هو وسيلة لرفع قدراتهم العسكرية بشكل مطلق. ويوضح أن إدماج المغرب في هذا المسار يمنح واشنطن قدرة غير مباشرة على توجيه خيارات التحديث العسكري، وربط جزء من جاهزية القوات المسلحة المغربية بسلاسل الإمداد الأمريكية.
ويخلص العباسي إلى أن المكسب المغربي الحقيقي لا يكمن في طبيعة المعدات المتحصّل عليها، بل في الولوج المستمر إلى منظومة متكاملة من التشغيل والتدريب والدعم، وهو مكسب يظل مشروطًا بالحفاظ على مستوى عالٍ من الانسجام السياسي والأمني مع الولايات المتحدة، بما يعيد، في المدى المتوسط، طرح سؤال استقلالية القرار التسليحي.
