عاد المشهد السياسي في مالي إلى الواجهة بتطور لافت يُعِيدْ خلط الأوراق في منطقة الساحل، حيث أعلنت تنظيمات أزواد الطوارقية، تأسيس تحالف سياسي جديد تحت اسم "ائتلاف القوى من أجل الجمهورية"، ووضع رجل الدين محمود ديكو – الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى في مالي والمقيم في الجزائر منذ نهاية 2021 – على رأسه. هذا الإعلان، الذي جاء في توقيت حساس يشهد فيه العلاقات بين باماكو والجزائر أسوأ مراحلها منذ سنوات، يُحْمِلْ إشارات سياسية عميقة تتجاوز الخلافات الثنائية لتصل إلى محاولة جزائرية واضحة لإعادة هندسة المشهد المعارض داخل مالي، بعد فقدانها نفوذها السابق في ملف السلام الساحلي.
يأتي هذا التكتل السياسي المعارض في سياق تصاعد التوترات بين السلطة الانتقالية المالية بقيادة العقيد عاصيمي غويتا والجزائر، التي كانت الوسيط الرئيسي في اتفاق السلام والمصالحة لعام 2015. انسحاب المجلس العسكري المالي من الاتفاق في مطلع 2024، تلاه انهيار اللجنة الدولية للمتابعة برئاسة الجزائر، مما أدى إلى قطيعة غير معلنة بين البلدين. توجت هذه الأزمة حادثة إسقاط طائرة مسيرة مالية على الحدود في 31 مارس 2025، اعتبرتها باماكو اعتداءً مباشرًا، بينما بررت الجزائر انتهاكًا جويًا متكررًا. في هذا الجو المتوتر، يبدو إطلاق الائتلاف الجديد خطوة جزائرية استراتيجية لاستعادة التأثير في شمال مالي، عبر دعم قوى معارضة تتحرك من أراضيها، مما يُعِيدْ إلى الأذهان دور الجزائر التاريخي كلاعب رئيسي في الديناميات الساحلية.
حمل بيان الائتلاف، الذي أُصْدَرْ من الجزائر، نبرة تصعيدية واضحة ضد السلطة الانتقالية، مُصَوِّرًاْ مالي كدولة ضعيفة ومؤسساتها منهارة، وشعب يتألم تحت وطأة "الفساد والإهمال". دَعَاْ البيان الجيش إلى "عصيان أخلاقي" ضد أوامر تقود الجنود إلى "الموت في عمليات بلا رؤية أو موارد"، وطالب بوقف "مجازر المدنيين والعسكريين" عبر إطلاق حوار وطني شامل يشمل "جميع الفاعلين، بمن فيهم الجماعات المسلحة الوطنية". هذه اللغة المكثفة بالاتهامات والتوصيفات السوداوية ليست مجرد خطاب معارض، بل محاولة لاستثمار الاحتقان الداخلي في مالي، حيث يُعَانِيْ الشمال من هجمات إرهابية متزايدة مرتبطة بداعش والقاعدة، وتُثِيرْ الشكاوى من إهمال الجنود في المناطق الحدودية مع النيجر وبوركينا فاسو غضبًا شعبيًا.
لكن الدلالات تتجاوز الخطاب الداخلي لتصل إلى البعد الإقليمي، خاصة في ملف الطوارق وأزواد. محمود ديكو، الشخصية الدينية والقيادية البارزة التي ساهمت في احتجاجات 2020 ضد الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا، غادر مالي إلى الجزائر نهاية 2021 بحثًا عن الأمن والعلاج، ومنذ ذلك الحين أصبحت الجزائر ملاذًا آمنًا لقيادات معارضة، مما يُعْطِيْ الائتلاف الجديد قاعدة عملياتية خارجية. هذا الوجود في الجزائر ليس صدفة؛ فالنظام الجزائري يعيش حساسية متزايدة تجاه مطالب الطوارق داخل جنوب الجزائر، ويخشى أن يؤدي تشدد باماكو أو ميلها نحو خيارات عسكرية إلى رفع سقف مطالب طوارق مالي، مما ينعكس مباشرة على الداخل الجزائري. بذلك، يصبح دعم الائتلاف وسيلة لتأمين هامش أكبر من التحكم في ديناميات الميدان الطوارقي، عبر رعاية قوى سياسية قادرة على خلق توازن يُعِيدْ للجزائر حق التأثير في شمال مالي، ويمنع انتقال "عدوى المطالب" إلى عمقها الجنوبي.
يُضِيفْ هذا التطور تعقيدًا إلى الأزمة الثنائية بين مالي والجزائر، التي لم تكن ناتجة عن حادثة منفردة بل تراكمات ممتدة. فقدان الجزائر لدور الوسيط المهيمن بعد انسحاب مالي من اتفاق 2015 – الذي اعتبرته ألجزائر إحدى أهم أوراق نفوذها الإقليمي – أدى إلى قطيعة غير معلنة، توجت بإسقاط طائرة مسيرة مالية في مارس 2025، اعتبرتها باماكو اعتداءً مباشرًا. اليوم، مع إطلاق الائتلاف من أراضي الجزائر، يبدو أن الرباط الجزائري يسعى لاستعادة نفوذه عبر دعم معارضة تُعْطِيْ انطباعًا بأنها "صوت وطني"، لكنها في الواقع تُخْدِمْ أجندة إقليمية أوسع، تتجاوز الخلافات الثنائية لتصل إلى إعادة هندسة المشهد في الساحل، حيث فقدت الجزائر تدريجيًا دورها كلاعب رئيسي أمام صعود نفوذ روسيا وتركيا في المنطقة.
في الوقت نفسه، يُثِيرْ هذا التحالف تساؤلات حول مصداقيته الداخلية. فديكو، الذي برز في احتجاجات 2020 ضد كيتا ووصف بـ"إمام الشعب" لدوره في حشد الملايين، يُعْتَبَرْ شخصية مثيرة للجدل؛ فهو مدافع عن الإسلام التقليدي الصوفي في غرب أفريقيا، لكنه يُتَّهَمْ من خصومه بـ"التلاعب السياسي" وتفضيل مصلحته الشخصية. تحالفه مع قوى علمانية في الماضي يُعْطِيْهْ شرعية واسعة، لكنه يواجه شكوكًا بسبب غيابه الطويل عن مالي، مما يجعل الائتلاف يبدو "منفيًا" في نظر البعض. ومع ذلك، يستمد قوته من استثمار الاحتقان الاجتماعي في مالي، حيث يُعَانِيْ الشعب من انهيار المؤسسات، وتدهور الأمن في الشمال، وإهمال الجنود في مواجهة الجماعات الإرهابية.
في النهاية، يُعَدُّ إطلاق "ائتلاف القوى من أجل الجمهورية" ليس مجرد خطوة معارضة داخلية، بل محاولة جزائرية لاستعادة دورها الإقليمي في الساحل، عبر دعم قوى تُعْطِيْ صوتًا للمعارضة دون التورط المباشر. هذا التحرك، الذي يأتي في وقت تُعَانِيْ فيه مالي من أزمة سياسية داخلية وخارجية، قد يُعِيدْ التوازنات في المنطقة، أو يُصْعِدْ التوترات إلى مستويات غير مسبوقة، مُذَكِّرًاْ بأن الخلافات الثنائية بين باماكو والجزائر ليست مجرد خلاف حدودي، بل صراع نفوذ يمتد إلى قلب الأزمة المالية والطوارقية. مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في أبريل 2026، يبدو أن الائتلاف الجديد ليس مجرد تحالف سياسي، بل أداة في لعبة إقليمية أكبر، حيث تُحَاوَلْ خلط الأوراق مرة أخرى في الساحل المتوتر.
