ما جرى داخل لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس المستشارين يتجاوز بكثير حدود نقاش تقني حول مادة قانونية، ليُسجَّل كلحظة مفصلية تكشف عن واحد من أخطر التراجعات التشريعية التي عرفتها الصحافة المغربية منذ عقود. فبإصرار وزير الشباب والثقافة والتواصل، محمد المهدي بنسعيد، على تمرير المادة الخامسة من مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، ورفضه القاطع لكل التعديلات المقترحة من المعارضة والنقابات والمهنيين، تم توجيه ضربة مباشرة لجوهر التنظيم الذاتي للمهنة.
القانون الذي تم تمريره، رغم الرفض الواسع داخل الجسم الصحافي، لم يكن ثمرة حوار مهني جاد أو توافق مسؤول، بل نصًّا مفصّلًا على مقاس مصالح محددة، أُعد بعناية لإعادة هندسة المجلس الوطني للصحافة بطريقة تُقصي الصحافيين وتُعزّز هيمنة الناشرين، مانحًا رأس المال سلطة تقريرية في قضايا الأخلاقيات والتأديب والتمثيلية واتخاذ القرار.
رفض الحكومة، بقيادة بنسعيد، للتعديلات التي تقدمت بها فرق برلمانية تمثل مشارب سياسية ونقابية مختلفة، لا يمكن اعتباره تفصيلًا إجرائيًا، بل هو موقف سياسي صريح يؤكد أن رأي الصحافيين لا يُعتد به، وأن صوت المهنيين لا وزن له في ميزان التشريع، ما دام القرار النهائي بيد الوزارة الوصية.
أما خطاب الوزير حول “التوازن” و”التمثيلية” و”الفعالية”، فلا يصمد أمام أبسط قراءة لتركيبة المجلس الجديدة. فكيف يمكن الحديث عن توازن داخل مؤسسة يُفترض أن تحمي الصحافيين، بينما يتم تهميشهم عدديًا؟ وكيف تُبرَّر “الفعالية” بمنح الناشرين، مدعومين بما يسمى “فئة الحكماء”، أغلبية عددية تحوّل المجلس إلى فضاء مغلق، تُدار قراراته بمنطق المصالح الاقتصادية لا المهنية؟
الأخطر في هذا المسار، أنه يؤسس لانتقال غير مسبوق في المغرب من منطق التنظيم الذاتي للصحافة إلى منطق الضبط الاقتصادي لحرية التعبير. فالصحافي لم يعد محكومًا فقط بميثاق أخلاقيات المهنة، بل بات خاضعًا أيضًا لحسابات الممولين والناشرين ولوبيات الإشهار، ممن أصبح لهم نفوذ مباشر داخل مؤسسة التأديب والتنظيم.
أما ما سُمِّي بـ”فئة الحكماء”، فليس سوى تحايل تشريعي مكشوف، هدفه توسيع نفوذ الناشرين تحت غطاء الخبرة والتجربة، مع إقصاء متعمد لأصوات صحافية مستقلة كان يمكن أن تُشكّل عنصر توازن حقيقي داخل المجلس. فـ”الحكمة” في هذا النص لا تُقاس بالاستقلالية، بل بالقرب من مراكز المال والنفوذ.
وما يزيد الوضع قتامة، أن هذا القانون لم يمر فقط ضد إرادة الصحافيين، بل دون أي استشارة مهنية واسعة أو استفتاء حقيقي داخل القطاع، وكأن الجسم الصحافي مجرد عنصر ثانوي في معادلة تُدار من فوق وبمنطق الوصاية.
إن ما يجري اليوم لا يمكن وصفه بالإصلاح، بل هو إعادة ترتيب خطيرة للمشهد الإعلامي، ستُنتج صحافة أكثر هشاشة، وصحافيين أقل أمانًا، ومجلسًا وطنيًا بلا استقلال فعلي.
وبهذا المسار، لا يكتفي الوزير بنسعيد بتقويض ما تبقى من المهنية، بل يفتح الباب أمام مرحلة تتحكم فيها لوبيات المال والإشهار في الخط التحريري، وفي آليات التأديب، وفي تحديد من يُسمح له بالكلام ومن يُقصى.
فحرية التعبير لا تُصادر دفعة واحدة، بل تُفرغ تدريجيًا عبر نصوص قانونية، وهذا بالضبط ما يحدث اليوم تحت قبة البرلمان. وإذا لم يتم التراجع عن هذا النهج، فإن الصحافة المغربية مقبلة على أخطر نكسة مؤسساتية في تاريخها الحديث.
