يقف نظام الرخص، المعروف شعبيا في المغرب باسم “الغريما”، اليوم عند مفترق طرق حاسم، بعد أكثر من ستة عقود من اعتماده كآلية لتنظيم النقل الحضري. فبين مدن كبرى كالدّار البيضاء والرباط وطنجة، يتجسد صراع يومي صامت بين نموذجين اقتصاديين متباينين: نموذج ريع تقليدي قائم على الامتياز وكراء الرخص منذ سنة 1963، ونموذج رقمي حديث تقوده المنصات التكنولوجية، مدفوعا بتغيرات اجتماعية عميقة ومطالب متزايدة بالشفافية وجودة الخدمات.
وفي تحليل صادر عن مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد، اعتبر الخبير الاقتصادي أحمد أونيني أن ما يعيشه المغرب اليوم يتجاوز كونه خلافا مهنيا بين سائقي سيارات الأجرة التقليدية وسائقي تطبيقات النقل الذكي، ليشكل مواجهة حقيقية بين نموذج اقتصادي استنفد قدرته على الاستمرار، وتحول رقمي يفرض نفسه بقوة الواقع، دون أن يجد بعدُ الإطار القانوني والمؤسساتي القادر على احتوائه.
نظام “الغريما”، الذي وُضع في الأصل لتنظيم القطاع وضمان استقراره، تحول مع مرور الزمن إلى أحد أبرز تجليات اقتصاد الريع، إذ باتت الرخص تُستغل غالبا عبر كراء شهري يثقل كاهل السائقين، ويدفعهم إلى العمل في ظروف هشة، دون حماية اجتماعية أو آفاق مهنية واضحة، ما أفرغ النظام من مبرراته التنظيمية الأصلية.
في المقابل، جاءت المنصات الرقمية بنموذج مغاير يقوم على العلاقة المباشرة بين السائق والزبون، وتسعير أكثر وضوحا، وخدمات قابلة للتتبع والمراقبة رقميا، وهو ما جعلها تحظى بإقبال واسع، خاصة في صفوف الفئات الحضرية الشابة، المتصلة رقميا، والناقمة على أعطاب النقل التقليدي.
غير أن هذه “الثورة في الاستعمال”، كما يسميها التحليل، اصطدمت بسرعة بفراغ تشريعي واضح، إذ تنشط هذه المنصات في منطقة رمادية لا يمنحها القانون اعترافا صريحا ولا يضعها تحت طائلة المنع الواضح، ما أدخل القطاع في حالة من اللايقين الدائم.
هذا الغموض القانوني، بحسب أونيني، كلفته باهظة، حيث وجدت السلطات العمومية نفسها تدبر الوضع بمنطق رد الفعل، بين تسامح غير معلن تفرضه إكراهات البطالة، وتدخلات أمنية ظرفية لاحتواء احتجاجات سائقي سيارات الأجرة التقليدية. وهو تذبذب لا ينتج سوى مزيد من الهشاشة، ويُبقي آلاف السائقين خارج أي إطار للحماية الاجتماعية، كما ينفّر المستثمرين المحتملين بسبب غياب الأمن القانوني.
ويرى التحليل أن المغرب لم يعد قادرا على الاستمرار في منطق التدبير الجزئي أو الحلول الترقيعية، مؤكدا أن تنظيم القطاع يتطلب تحولا نوعيا في التفكير العمومي، عبر إطلاق مهمة استطلاعية شاملة، يُفضل أن يشرف عليها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بهدف رسم خريطة دقيقة للمهن المرتبطة بالمنصات الرقمية وفهم آثارها الاقتصادية والاجتماعية والجبائية.
الرهان الأساسي، وفق أونيني، يتمثل في بناء إطار تنظيمي متكامل لا يختزل المسألة في النقل فقط، بل يدمجها ضمن رؤية شاملة للاقتصاد الرقمي والعمل المرن، بما يضمن حقوق العاملين، ويخضع المنصات لقواعد واضحة، ويحقق توازنا دقيقا بين تشجيع الابتكار ومنع المنافسة غير العادلة، دون حماية نماذج متقادمة باسم الاستقرار الاجتماعي.
وتزداد أهمية هذا النقاش في ظل الاستحقاقات الدولية المقبلة، وعلى رأسها تنظيم كأس العالم 2030، حيث ستُوضع جودة الخدمات الحضرية، خاصة النقل، تحت مجهر المعايير الدولية. فمدن تستعد لاستقبال ملايين الزوار لا يمكنها الاستمرار في الاعتماد على نماذج متجاوزة أو حلول مؤقتة تشتغل خارج القانون.
من هذا المنطلق، يدعو التحليل إلى إعادة النظر في “الأوبرة” ليس كتهديد خارجي، بل كفرصة لإعادة هيكلة القطاع ورافعة محتملة لنمو أكثر شمولا، تسمح للمغرب بتطوير فاعلين وطنيين في الاقتصاد الرقمي، بدل الاكتفاء بدور المستهلك لحلول مستوردة.
وفي المحصلة، لم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كان نظام الرخص يلفظ أنفاسه الأخيرة، بل كيف سيدير المغرب لحظة الانتقال هذه: إما بمواصلة سياسة التأجيل والتردد، بما تحمله من كلفة اجتماعية واقتصادية متصاعدة، أو بالحسم في اتجاه نموذج جديد يقطع مع الريع، ويؤطر الابتكار، ويستثمر في طاقات شبابه، قبل أن تفرض التحولات الجارية واقعا لا مجال فيه سوى للتكيف المتأخر.
