النظام الصحي في المغرب، تحولات وتحديات نحو التغطية الشاملة

يمثل مشروع تعميم الحماية الاجتماعية في المغرب أحد أكبر الأوراش الاستراتيجية التي تشرف عليها أعلى سلطة في البلاد، ويهدف إلى ترسيخ أسس الدولة الاجتماعية. تنطلق هذه الإصلاحات، التي تستند إلى مقتضيات دستور 2011 المتعلقة بحق المواطن في الصحة والتغطية الاجتماعية، ببرنامج طموح يُتوقع اكتماله بحلول عام 2026، بميزانية تقديرية تصل إلى 51 مليار درهم، مع استمرار تقوية المنظومة الصحية الوطنية.

يشكل هذا الورش تحولاً نوعياً في مقاربة الحماية الاجتماعية؛ فقد انتقل المغرب على المستوى التشريعي، منذ قانون المالية لعام 2021، من نظام كان الانخراط فيه اختيارياً لغير الموظفين والأجراء إلى نظام يفرض التسجيل الإجباري، خاصة على الفئات الهشة والمستقلين. هذا التحول من الاختيار إلى الإجبار يتطلب آليات حكامة دقيقة وموحدة لضمان وصول الدعم إلى المستحقين.

تحدي الاستهداف والحكامة الرقمية: السجل الاجتماعي الموحد

إن كفاءة تعميم التغطية الصحية الشاملة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنجاح منظومة الاستهداف، وعلى رأسها إحداث السجل الاجتماعي الموحد (RSU) والسجل الوطني للسكان (RNP)، وهي أنظمة معلوماتية مصممة لتبسيط مساطر التسجيل وتوفير خدمة التحقق من صدقية المعطيات لفائدة مختلف برامج الحماية الاجتماعية. يمثل إحداث الوكالة الوطنية للسجلات مبادرة وجيهة لمعالجة الاختلالات السابقة في برامج الدعم.

ومع ذلك، يبرز تحدٍ هيكلي يتعلق بالحاجة إلى إدراج منظومة السجل الاجتماعي الموحد في صلب رؤية استراتيجية واضحة للحكومة، تحدد بوضوح الأهداف، وخيارات الاستهداف، ومعايير التنقيط المعتمدة. والأهم من ذلك، أن التحول الرقمي يواجه خطر الإقصاء التقني؛ حيث أغفلت المنظومة في مراحلها الأولى فئات معينة من السكان، مثل القاصرين دون سكن قار أو الأسر التي لا تستطيع الإدلاء بما يثبت محل سكناها. إذا لم تتم معالجة هذه الفجوات، فإن النظام الجديد سيخلق فئة "المقصيين رقمياً" التي قد تضم الأشد فقراً والأكثر بعداً عن الخدمات. لمعالجة هذا الخطر، يوصي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بإمكانية إحداث "مصلحة للوصاية الاجتماعية" تابعة للجماعات الترابية، تعمل على إدماج الأشخاص في "وضعية الشارع" في منظومة الدعم.

نظرة على الآثار السلبية واللامساواة الصحية

على الرغم من المنطلقات الطموحة لتعميم التغطية، يشير تحليل أكاديمي معمق إلى أن هذا الورش قد يتحول من ضمان "الحق في العلاج" إلى تكريس "اللامساواة في الصحة". يرجع ذلك إلى وجود إكراهات مركبة تتعلق بالواقع الاقتصادي والاجتماعي للفئات المستهدفة، وتفاقم الفوارق المجالية ، إضافة إلى ضبابية انخراط بعض الفاعلين والشركاء في تنزيل مقتضيات القانون الإطار.

يشير هذا التحليل إلى أن نجاح التغطية الشاملة ليس مجرد مسألة تمويل أو تشريع، بل هو اختبار لقدرة الحكامة الإدارية على دمج الفئات التي تفتقر إلى "الهوية الرقمية" أو العنوان القار، مما يبرز الترابط الجوهري بين العدالة الاجتماعية (الاستهداف الفعال) وتحقيق الأهداف الصحية للبلاد. فإذا لم تكن آليات الاستهداف دقيقة وتراعي الهشاشة البنيوية، فإن الأموال المخصصة لن تصل إلى مستحقيها بالفاعلية المطلوبة.

أزمة الموارد البشرية والعدالة المجالية في قطاع الصحة: دراسة لظاهرة نزيف الأطباء وسوء التوزيع الجغرافي

يشكل الخصاص الحاد في الأطر الصحية، سواء الأطباء أو الممرضون، العائق الأبرز أمام إنجاح الإصلاحات الصحية الهيكلية في المغرب. تشير الأرقام الرسمية إلى أن البلاد تحتاج إلى ما يقارب 32 ألف طبيب إضافي فقط لتلبية المعايير الأساسية التي وضعتها منظمة الصحة العالمية (WHO). حالياً، لا يتجاوز معدل الأطباء في المغرب 7.3 طبيب لكل 10 آلاف نسمة، وهو رقم بعيد جداً عن المعيار العالمي المحدد بـ 15.3 طبيب لنفس العدد من السكان.

نزيف الأدمغة والهجرة الداخلية

يتفاقم هذا النقص الهيكلي بفعل ظاهرة هجرة الكوادر الصحية المتزايدة. فالمغرب يخسر ما بين 10 آلاف و 14 ألف طبيب مغربي يعملون في الخارج، وتشير بعض الدراسات إلى أن ما بين 600 و 700 طبيب يتخرجون سنوياً يختارون الهجرة. هذا النزيف يهدد بعجز خطير في الرأسمال البشري الطبي اللازم لتشغيل المنظومة الجديدة.

ترجع أسباب هذه الهجرة إلى عوامل متعددة، أبرزها ضعف الحافز المادي والأجور، وسوء ظروف العمل ونقص التجهيزات والمعدات في المستشفيات العامة، مقابل الاكتظاظ الذي يثقل كاهل الأطر. وبالإضافة إلى الهجرة الخارجية، يواجه القطاع العام "نزوحاً داخلياً" نحو القطاع الخاص؛ حيث يرفض أكثر من 80% من الأطباء تحت التدريب مزاولة مهامهم في القطاع العمومي. تعكس هذه المعطيات تفوق عدد الأطباء في القطاع الخاص (17,213 طبيباً) على نظرائهم في القطاع العام (15,452 طبيباً).

التوزيع الجغرافي وتفاقم اللامساواة المجالية

يؤدي سوء التوزيع الجغرافي للكوادر الطبية إلى تفاقم مشكلة العدالة المجالية في الولوج للخدمات الصحية. ففي حين تتركز أغلبية الأطباء والمرافق الصحية في جهات ذات كثافة سكانية واقتصادية عالية مثل الدار البيضاء-سطات والرباط-سلا-القنيطرة، تعاني الأقاليم النائية والقروية من نقص مزمن في العرض الصحي.

لقد أدركت الحكومة هذا التحدي، وعملت على تعزيز البنية التحتية في العالم القروي والأقاليم التي كانت تفتقر إلى أي عرض صحي. وتهدف هذه الجهود إلى تقليص تنقل المرضى نحو المراكز الحضرية الكبرى وتخفيف الضغط على المستشفيات الجامعية. وعلى سبيل المثال، تم افتتاح مستشفى القرب في مناطق كانت معزولة، وافتتاح المستشفى الإقليمي لتنغير الذي يغطي أكثر من 300 ألف نسمة.

ومع ذلك، فإن الاستثمار في البنية التحتية وحده، مثل بناء المستشفيات، لن يحقق الأثر المرجو ما لم يتم إيجاد سبل مستعجلة لضمان استقرار الأطر الصحية وتوفيرها في هذه الأقاليم. يُعتبر فشل السياسات في احتواء نزيف الكفاءات تهديداً استراتيجياً لخطة الإصلاح بأكملها، حيث يحول الاستثمار الضخم في التغطية الشاملة إلى مجرد ضمان مالي لا يقابله خدمة صحية فعلية متاحة في المناطق الهامشية.

المقارنة بين المؤشرات الوطنية للأطر الصحية والمعايير الدولية

المؤشرالمعدل الوطني الحالي (تقريبي)المعيار الموصى به (WHO)حجم النقص التقديري (المطلوب)نسبة الأطباء المهاجرين (من الإجمالي)
عدد الأطباء لكل 10 آلاف نسمة

7.3 طبيب 

15.3 طبيب 

32,000 طبيب إضافي 

10,000 - 14,000 طبيب 

إرسال تعليق

الانضمام إلى المحادثة