في الوقت الذي كان يُنتظر فيه من حكومة عزيز أخنوش أن تترجم وعودها حول “الجدية” و”الإصلاح” إلى سياسات ملموسة تعيد الثقة في المؤسسات، يبدو أن الواقع يسير في الاتجاه المعاكس تمامًا. فبدل تعزيز الشفافية ومحاربة تضارب المصالح، تتكشف تباعًا قضايا وفضائح تُظهر انحرافًا خطيرًا نحو منطق الريع وتغليب المصالح الخاصة على حساب الصالح العام.
في البرلمان، فجّر عبد الله بوانو، رئيس المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية، مفاجأة سياسية مدوية حين وصف مشروع قانون مالية 2026 بأنه “بلا رؤية ولا روح”، وأنه لا يمتّ بصلة إلى البرنامج الحكومي الذي وعدت به الأغلبية عند توليها المسؤولية. وذهب أبعد من ذلك حين اعتبر أن البلاد تواجه “حكومة الصفقات والمصالح”، حكومة غارقة في سوء التدبير وتناسل الامتيازات، حتى باتت عبئًا على المواطن وصورة الدولة معًا.
من أبرز ما أثار الجدل مؤخرًا قضية صفقة الأدوية التي يُشتبه في ارتباطها بمصالح متقاطعة بين وزيرين في الحكومة نفسها، ما يعيد إلى الواجهة سؤال تضارب المصالح وغياب آليات رقابة فعالة تضمن النزاهة في تدبير المال العام. كيف يمكن لحكومة تُتهم بعض أطرافها بهذه الممارسات أن تتحدث عن “الحكامة الجيدة” وهي تعجز عن تطبيقها داخل أجهزتها؟
الأمر لا يتوقف عند ذلك. فقد أثارت أرقام عيد الأضحى الأخيرة جدلاً واسعًا بعدما تضاربت المعطيات الرسمية حول عدد رؤوس الماشية، حيث رفعت وزارة الداخلية الرقم من 17 إلى 32 مليون رأس، في تناقض واضح مع تصريحات سابقة. هذا التباين كشف عن خلل مؤسساتي في التواصل والشفافية، وعن ميلٍ إلى تجميل الواقع بالأرقام بدل معالجة المشكلات في عمقها.
أما الصمت الرسمي أمام هذه القضايا، فهو بحد ذاته موقف مقلق. فالتزام الصمت في مواجهة شبهات الفساد لا يعني الحياد، بل يُفهم غالبًا كضوء أخضر لاستمرار منطق الريع والصفقات الموجهة. وهو ما يطرح سؤالًا جوهريًا حول مدى تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي نص عليه الدستور.
لقد تحولت هذه الحكومة، في نظر كثيرين، من حكومة “الجدية” إلى حكومة “الانتقائية”، تُفتح فيها الأبواب أمام الدائرة الضيقة للمقربين، وتُغلق في وجه الكفاءات المستقلة والمبادرات الوطنية الحقيقية. والنتيجة واضحة: احتقان اجتماعي متصاعد، وشعور متزايد بانعدام الثقة في الخطاب الرسمي.
إن المغرب اليوم بحاجة إلى دولة مؤسسات قوية تُحكمها الشفافية والمساءلة، لا إلى حكومة تُدير المال العام بمنطق المقاولة الخاصة. وإذا كانت “الجدية” شعار المرحلة، فإن أول اختبار لها هو القطع مع تضارب المصالح ومحاسبة كل من استغل موقعه لخدمة مصالحه الخاصة.
