الجهوية المتقدمة بين الطموح والواقع: هل تنجح الدولة في كسر منطق “مغرب السرعتين”؟


في الوقت الذي يتصاعد فيه النقاش العمومي بالمغرب حول جدوى النموذج التنموي الجديد وقدرته الفعلية على كسر منطق “مغرب السرعتين”، من زاوية العدالة المجالية وتقليص الفوارق الترابية والاجتماعية، قدّم وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت معطيات رسمية تكشف عن حجم استثماري غير مسبوق شمل مجموع جهات المملكة الاثنتي عشرة، في محاولة لإبراز التقدم المحقق على مستوى السياسات العمومية الموجهة للتنمية الترابية.

لفتيت، وفي جواب كتابي على سؤال برلماني للفريق الحركي حول مدى ضمان العدالة المجالية في تنزيل مشاريع النموذج التنموي الجديد، أوضح أن مجموع الاعتمادات المالية المعبأة في إطار برامج التنمية الجهوية بلغ 243,293 مليار درهم، من بينها 74,829 مليار درهم كمساهمات مالية مباشرة لفائدة الجهات. وتغطي هذه الاعتمادات تنفيذ 2101 مشروع تمت المصادقة عليها ضمن برامج التنمية الجهوية لمختلف جهات المملكة، وذلك تفعيلاً لمقتضيات القانون التنظيمي المتعلق بالجهات، الذي جعل من التنمية الترابية ركيزة أساسية في تنزيل ورش الجهوية المتقدمة.

ولا تنفصل هذه الأرقام عن سياق سياسي واضح، يمكن ربطه بالتوجيهات الواردة في الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش الأخير، حيث شدد الملك محمد السادس على أن تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية ومحاربة الفوارق لا يشكل خياراً تقنياً أو ظرفياً، بل يمثل “توجهاً استراتيجياً ورهاناً مصيرياً” يؤطر مجمل السياسات العمومية للدولة.

بهذا المعنى، تحاول وزارة الداخلية تقديم صورة مفادها أن الدولة لم تعد تتعامل مع الفوارق الترابية بمنطق التدخلات المجزأة أو الحلول الظرفية، بل ضمن رؤية أشمل تروم إعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجالات الترابية على أساس الإنصاف، وتكافؤ الفرص، ورد الاعتبار للأبعاد الاجتماعية والمجالية في التخطيط العمومي.

وفي هذا السياق، أكد لفتيت أن الوزارة تولي عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة، انطلاقاً من خصوصياتها الاجتماعية والجغرافية والاقتصادية، وذلك عبر تفعيل مجموعة من الآليات، من بينها برامج التنمية المستدامة للسواحل الوطنية، وتوسيع نطاق برنامج “المراكز القروية الناشئة” بما يسمح بتقريب الخدمات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية من المواطنين في العالم القروي. كما أشار إلى اعتماد مقاربة “التنمية المجالية المندمجة” كبديل عن المقاربات التقليدية التي أثبتت محدوديتها، عبر التعامل مع المجال الترابي كوحدة متكاملة تتداخل داخلها البنيات التحتية، والخدمات الأساسية، والاستثمار العمومي.

وبعد سنوات من النقاش النظري حول الجهوية المتقدمة باعتبارها إطاراً مؤسساتياً لإعادة توزيع السلطة والموارد، يبدو أن الدولة تسعى اليوم إلى إضفاء مضمون عملي على هذا الورش. إذ يشير وزير الداخلية إلى مواكبة الوزارة لمجالس الجهات في إعداد مشاريع التصاميم الجهوية لإعداد التراب، باعتبارها وثائق استراتيجية مرجعية تمتد على مدى خمسة وعشرين عاماً.

وقد تم بالفعل التأشير على 12 مقرراً غطت جميع جهات المملكة، مع تعزيز التنسيق مع قطاع التعمير لتتبع المخططات التوجيهية للتهيئة العمرانية، وذلك في إطار مقاربة تشاركية تهدف إلى ضمان انسجام المشاريع المندمجة وقابليتها للتنفيذ، وتحقيق أثر مباشر وملموس على الساكنة. ويهدف هذا الربط بين التخطيط الترابي بعيد المدى ومشاريع التنمية، وفق الخطاب الرسمي، إلى تجاوز منطق التنمية المبعثرة وغير المتناسقة الذي طبع مراحل سابقة.

وفي قلب هذه الدينامية، يبرز برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية بالوسط القروي، الذي انطلق تبعاً للخطاب الملكي في 30 يوليوز 2015، بميزانية إجمالية تناهز 50 مليار درهم. وبحسب المعطيات التي قدّمها لفتيت، تم إعداد سبعة مخططات عمل جهوية سنوية لتنمية المجال القروي والمناطق الجبلية، بقيمة إجمالية تقارب 49,25 مليار درهم، جرى رصد 45,57 مليار درهم منها فعلياً، بنسبة تعبئة مالية بلغت 99 في المائة من الميزانية الإجمالية.

وعلى مستوى الإنجاز الميداني، تشير الأرقام الرسمية إلى استكمال 8170 مشروعاً من أصل 10939 مشروعاً مبرمجاً، أي بنسبة إنجاز تناهز 75 في المائة، في حين لا تزال 1464 مشروعاً في طور الإنجاز، بنسبة تقدر بـ13 في المائة.

وتغطي هذه المشاريع قطاعات حيوية تمس شروط العيش الأساسية لسكان القرى والمناطق الجبلية، من بينها 2511 مشروعاً للطرق والمسالك القروية، و1981 مشروعاً في قطاع التعليم، و1273 مشروعاً في قطاع الصحة، إضافة إلى 943 مشروعاً للتزود بالماء الصالح للشرب. وهي قطاعات لا تكتسي فقط طابعاً اجتماعياً، بل ترتبط بشكل مباشر بإمكانية تثبيت الساكنة في مجالها الترابي والحد من الهجرة القروية نحو المدن الكبرى.

وفي إطار استكمال هذا الورش، أعلنت وزارة الداخلية عن إصدار دورية وزارية بتاريخ 31 ماي 2024، تتعلق بمنهجية إعداد العقود المبرمة بين الدولة والجهات لتنزيل برامج التنمية الجهوية الخاصة بالعهدة الانتدابية 2022-2027. وتهدف هذه الخطوة إلى إرساء نموذج تعاقدي جديد يقوم على تجويد محتوى البرامج، وتأطير تدخلات المجالس الجهوية، مع الحرص على انسجام هذه البرامج مع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتصاميم التهيئة العمرانية، وباقي الوثائق المرجعية للتخطيط الترابي. وبهذا، تحاول الدولة الانتقال من منطق التمويل المجرد إلى منطق التعاقد المرتبط بالأهداف والنتائج، في إطار حكامة يُفترض أن تكون أكثر وضوحاً ومساءلة.

وشدد وزير الداخلية على أن ضمان العدالة المجالية يمر عبر التفعيل الفعلي لمبدأ الجهوية المتقدمة، وتثمين الخصوصيات المحلية، مع اعتماد عمل اللجن الوطنية والجهوية كآلية لتسريع وتيرة الإنجاز وتوجيه الاستثمارات نحو المناطق الأقل نمواً، بناءً على خرائط تقنية دقيقة ترصد تموضع الفوارق وتحدد الأولويات والاحتياجات بشكل موضوعي.

غير أن هذا المسار لا يخلو من تساؤلات نقدية. ففي هذا الصدد، يرى إدريس المنصوري، أستاذ الحكامة الترابية وسياسات التنمية، أن “ما نشهده اليوم هو محاولة لإعادة كتابة العقد الترابي للدولة، أكثر مما هو مجرد تنفيذ لبرامج استثمارية ظرفية”. ويوضح المنصوري، في تصريح لـ“الصحيفة”، أن “الإشكال الجوهري لا يكمن في حجم الغلاف المالي أو عدد المشاريع المعلنة، بل في الكيفية التي تُتخذ بها القرارات على المستوى الجهوي، ومن يملك سلطة ترتيب الأولويات، وكيف تُراقَب النتائج على المدى المتوسط والبعيد”.

ويحذر المتحدث من أن استمرار تمركز المبادرة والتخطيط داخل الإدارة المركزية، مع اختزال دور الجهات في تنفيذ برامج جاهزة، قد يؤدي إلى “تحديث شكلي في الخطاب دون إحداث تغيير حقيقي في بنية السلطة الترابية”. كما يؤكد أن العدالة المجالية تقتضي إعادة توزيع الفعل السياسي والقدرة على اتخاذ القرار، وإدماج الفاعلين المحليين والمنتخبين والمجتمع المدني في صياغة البرامج وتتبعها ومساءلتها.

ويخلص المنصوري إلى أن “الرهان الحقيقي يتمثل في الانتقال من منطق تعميم المشاريع إلى منطق تعميم القدرة على صناعة التنمية”، معتبراً أن هذا هو الفارق الجوهري بين دولة تسعى إلى تقليص الفوارق بشكل مستدام، ودولة تكتفي بإدارتها بشكل تكتيكي كلما اشتد الضغط الاجتماعي أو السياسي.

إرسال تعليق

الانضمام إلى المحادثة

الانضمام إلى المحادثة