"أسود التيرانغا" يزأرون في قلب المدينة الحمراء: حكاية ليلة كروية بمذاق الشاي المغربي...

عندما اهتزت الشباك للمرة الثالثة في الدقيقة التسعين، لم يكن الانفجار الذي شهدته أزقة مراكش مجرد صرخة عابرة، بل تحول المقهى الرابض قرب ساحة "جامع الفنا" الأسطورية إلى ما يشبه خلية نحل لا تهدأ. الغريب والممتع في آن واحد، أن تلك الهتافات التي صدحت بـ "ياااه!" و"غووول!" لم تكن حكراً على الجالية السنغالية المقيمة بالمدينة، بل خرجت بلكنة مراكشية صرفة، ممزوجة بابتسامات عريضة وتصفيق حار، لتؤكد أن مراكش في ظل "كان 2025" لم تعد مجرد مدينة مغربية، بل أصبحت عاصمة روحية لكل عشاق الكرة الإفريقية.

في مساء أمس الثلاثاء، لم يكن المشهد داخل مقاهي المدينة العتيقة مجرد متابعة عادية لمباراة في كرة القدم، بل كان تجسيداً حياً لروح الأخوة الإفريقية التي رفعها المغرب شعاراً لهذه الاستضافة. المتابعة كانت لمواجهة المنتخب السنغالي، حامل اللقب السابق، أمام طموح منتخب بوتسوانا، لكن الانفعالات كانت تتجاوز حدود الجغرافيا لتصنع مشهداً من التلاحم الإنساني الفريد.

منذ صافرة البداية، فرضت "أسود التيرانغا" إيقاعها على رقعة الميدان، وانعكس ذلك التوتر والتركيز على وجوه الجالسين في المقهى. ومع كل فرصة يضيعها نيكولا جاكسون أو ساديو ماني، كانت ترتفع "آهه" جماعية توحد بين خيبة أمل السنغالي وتعاطف المغربي. "الحارس البوتسواني قوي، لكن السنغال أقوى"، هكذا علق أحد المتابعين وهو يشد انتباهه نحو الشاشة الكبيرة، في حين أثارت تصديات الحارس البوتسواني "فوكو" البطولية صيحات إعجاب من شباب مراكشيين رأوا في الأداء تجسيداً لمستوى القارة الذي لا يعترف بالأسماء الكبيرة فقط.

وعندما جاء الخبر اليقين في الدقيقة الأربعين بقدم جاكسون، ارتفعت الأيدي وهتفت الحناجر في تناغم لافت، وبينما كان النادل يوزع أكواب الشاي بالنعناع، كانت التعليقات التقنية تملأ المكان؛ "هذه هي الكرة الجميلة، وعلى الركراكي أن يستعد جيداً لهؤلاء"، يقول أحد المتابعين في إشارة إلى القوة الضاربة للسنغال.

خارج جدران المقهى، لم تكن مراكش أقل حماساً، فالمدينة ارتدت حلتها الإفريقية الأبهى. الأعلام الخضراء والصفراء والحمراء ترفرف جنباً إلى جنب مع العلم المغربي على طول المحاور الرئيسية، من شارع محمد السادس الراقي إلى أطراف المدينة القديمة. الزينة الضوئية التي استلهمت رموزها من الكرة الإفريقية منحت المدينة إشراقة خاصة مع حلول الليل، حتى وسائل النقل الجديدة والحافلات العصرية بدت وكأنها تنقل الحماس من حي إلى آخر، مشكلةً جسراً يربط بين التاريخ العريق للمدينة والحاضر الرياضي المتطور.

ومع تسجيل الهدفين الثاني والثالث، اكتملت فصول المسرحية الكروية، حيث ساد الإجماع بين رواد المقهى على أن السنغال جاءت لاستعادة لقبها الضائع. "شوف التنظيم! هادو جايين عوالين يديو الكاس"، هكذا لخص رشيد، الموظف بقطاع السياحة، المشهد بعباراته البسيطة. لكن الأجمل في كل هذا، هو ذلك التقدير الذي أبداه الجمهور المغربي لمنتخب بوتسوانا، مؤكدين أن المتعة تكمن في الندية والروح الرياضية.

وقبل أن ينصرف الجميع تحت سماء مراكش التي تتنفس عبق البطولة، بقي صدى الأحاديث عن آفاق "الأسود" السنغالية وتوقعات الجماهير للمنتخب المغربي يملأ المكان. لقد أثبتت مراكش، بكرمها المعتاد وانفتاحها الدائم، أن كرة القدم هي فعلاً اللغة المشتركة التي تجمع القلوب، محولةً مقهى متواضعاً في قلب المدينة إلى نموذج مصغر لقارة تحلم وتفرح وتتحد تحت مظلة واحدة.

إرسال تعليق

الانضمام إلى المحادثة

الانضمام إلى المحادثة