ما الذي يجري داخل منظومة الصفقات العمومية بقطاع الصحة؟ وكيف يمكن لشركة متخصصة في خدمات التنظيف أن تفوز بصفقة للتمريض داخل مستشفى جامعي يُفترض فيه أعلى معايير الصرامة المهنية والقانونية؟ أسئلة ثقيلة تفرض نفسها بقوة بعد تفجّر معطيات مثيرة للقلق حول صفقة التمريض بالمستشفى الجامعي بأكادير، التي آلت إلى شركة HYM NETTOYAGE بمبلغ يفوق 24 مليون درهم.
المعطيات المتداولة لا تشير إلى هفوات إدارية عابرة أو اجتهادات قابلة للتأويل، بل تكشف عن اختلالات عميقة تمس جوهر الشفافية وتكافؤ الفرص، وتضع وزارة الصحة وإدارة المستشفى الجامعي في قلب عاصفة من التساؤلات. فدفتر الاستشارات كان واضحًا وصريحًا، إذ اشترط توفر خبرة مثبتة في مجال التمريض، وشهادة إنجاز واحدة على الأقل خلال عشر سنوات، بقيمة لا تقل عن خمسة ملايين درهم. ومع ذلك، رست الصفقة على شركة لم يكن نشاط التمريض مدرجًا ضمن سجلها التجاري وقت تقديم العرض.
الأكثر إثارة للريبة أن الشركة المعنية لم تُضف نشاط التمريض إلى سجلها التجاري إلا بعد الإعلان عن فوزها بالصفقة، وتحديدًا بتاريخ 4 دجنبر 2024. فهل يتعلق الأمر بسهو إداري غير مسبوق؟ أم بتحايل واضح على القوانين والمساطر الجاري بها العمل؟ وكيف تمكن ملف الشركة من المرور عبر لجان الفحص والتقييم دون استيفاء الشروط الأساسية؟ أسئلة مشروعة لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها بالصمت.
وإذا كان الخلل في مسطرة الإسناد خطيرًا في حد ذاته، فإن ما أعقبه لا يقل فداحة. فالمتابعات الميدانية والتقارير الإعلامية تتحدث عن خروقات جسيمة لدفتر التحملات، من بينها تشغيل عمال دون عقود عمل قانونية، واللجوء إلى عقود ANAPEC رغم المنع الصريح لذلك، إضافة إلى أجور هزيلة لا تتجاوز 2100 درهم مقابل ساعات عمل طويلة، في انتهاك سافر لمدونة الشغل وحقوق العاملين. أي خدمة تمريض هذه التي تُبنى على الهشاشة الاجتماعية والاستغلال الفج؟
كما تفتح تركيبة مسيري الشركة بابًا آخر للتساؤل حول الأهلية الإدارية والأخلاقية لتدبير قطاع بالغ الحساسية كالصحة، خاصة في ظل تعدد الشركات المرتبطة بالأسماء نفسها، وهو ما يفرض تدقيقًا معمقًا في شبكات الاستفادة من الصفقات العمومية، واحتمال وجود نمط متكرر من الاختلالات.
ويبقى السؤال الجوهري موجّهًا إلى وزارة الصحة: أين كانت أجهزة المراقبة؟ وكيف مُنحت صفقة تمريض دون التأكد من التراخيص القانونية المنصوص عليها في القانون 131.13؟ ومن يتحمل مسؤولية تعريض مرفق صحي جامعي لهذا العبث؟
إن الصمت في قضايا من هذا النوع لا يمكن اعتباره حيادًا، بل يرقى إلى مستوى التواطؤ غير المباشر. فالسكوت عن مؤشرات التزوير أو تضارب المصالح أو استغلال العمال هو تشجيع ضمني على تكرارها. والحديث هنا لا يقتصر على المال العام، بل يتعلق بصحة المرضى، وكرامة العاملين، ومصداقية الدولة.
وإذا ثبتت هذه المعطيات، فإننا نكون أمام فضيحة مؤسساتية مكتملة الأركان، تستوجب فتح تحقيق قضائي مستقل وعاجل في الصفقة رقم 16/2024/CHUSM، مع ترتيب المسؤوليات الإدارية دون اللجوء إلى منطق “عفا الله عما سلف”، وتوقيف تنفيذ الصفقة مؤقتًا حمايةً للمرفق العام، وربط حقيقي بين المسؤولية والمحاسبة، لا الاكتفاء ببلاغات التوضيح.
لا يمكن إصلاح المنظومة الصحية بصفقات مشبوهة، ولا بناء الثقة بممارسات تثير الشكوك. وملف صفقة التمريض بالمستشفى الجامعي بأكادير يشكل اختبارًا حقيقيًا لجدية الدولة في تنزيل شعار “ربط المسؤولية بالمحاسبة”: فإما أن ينتصر القانون، أو تُسجَّل سابقة خطيرة تُشرعن العبث بأكثر القطاعات حساسية في حياة المغاربة.






