تستعد الساحة المالية والسياسية في المغرب لطي صفحة من أبرز صفحات تاريخها المعاصر، مع تواتر الأنباء المؤكدة حول قرار عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، مغادرة منصبه مع نهاية السنة الجارية. هذا الرحيل لا يعد مجرد تغيير إداري عادي، بل هو نهاية حقبة استثنائية دامت لأكثر من 22 عاماً، نجح خلالها الجواهري في بناء "حصن منيع" للسياسة النقدية، تاركاً وراءه إرثاً من الاستقرار المالي الذي صمد أمام أعنف الأزمات العالمية والمحلية.
الاستقالة الهادئة وسط "العواصف" السياسية
رغم أن رحيل الجواهري يأتي بعد مسار مهني حافل، إلا أن مصادر مطلعة تربط هذا التوقيت بضغوطات غير معلنة وتوترات صامتة مع الحكومة الحالية. فتقارير بنك المغرب، التي اتسمت دائماً بالصراحة والموضوعية العلمية، لم تكن تروق في كثير من الأحيان للتوجهات الحكومية، خاصة عندما كانت تشخص بمرارة واقع التضخم أو بطء النمو. هذا التباين في الرؤى جعل من رحيل الجواهري "مطلباً مضمراً" لبعض الأطراف السياسية التي تسعى لانسجام أكبر بين السياسة المالية والسياسة النقدية، وهو ما يراه الخبراء تهديداً لاستقلالية البنك المركزي.
صراع الخلافة: السياسيون في "منطقة التسلل"
مع اقتراب الاجتماع الرابع للمجلس المركزي لبنك المغرب لسنة 2025، بدأ بورصة الأسماء المرشحة في الغليان. وبينما تحاول بعض الأطراف السياسية، وعلى رأسها رئيس الحكومة، فرض أسماء مقربة من "الدائرة الحزبية"، تصطدم هذه الرغبات بجدار المعايير الصارمة التي يتطلبها المنصب.
فاسم مثل محمد بنشعبون، وزير المالية السابق، يواجه عائق ارتباطه برئاسة مؤسسة "اتصالات المغرب".
أما أسماء أخرى مثل صلاح الدين مزوار، فتصطدم بجدل تجاربه السابقة ومحدودية القبول التقنقراطي لها في منصب يتطلب ثقة المؤسسات المالية الدولية قبل كل شيء.
خيار "الداخل" أم سيناريو "الداخلية"؟
تذهب التحليلات الرصينة إلى أن إنقاذ استقرار بنك المغرب يكمن في خيارين لا ثالث لهما:
الترقية الداخلية: بالاعتماد على "بروفايلات" من داخل الإدارة المركزية للبنك، وهي الكفاءات التي تربت على يد الجواهري وتعرف دهاليز السياسة النقدية والاحتياطات الصرفية بدقة متناهية، مما يضمن استمرارية المؤسسة بعيداً عن "التجارب" السياسية.
خيار "الوالي التقنقراطي": وهو السيناريو الذي ترجحه بعض المصادر، قياساً على تجربة "صندوق الإيداع والتدبير" (CDG) الذي نُصب على رأسه الوالي السابق خالد سفير. هذا التوجه يهدف إلى تعيين شخصية ذات خلفية إدارية قوية وتكوين تقني عالٍ، قادرة على تدبير المؤسسة بصرامة "رجالات الدولة" مع الحفاظ على مسافة أمان من التجاذبات الحزبية.
تحديات ما بعد الجواهري
يبقى التحدي الأكبر للوالي القادم هو الحفاظ على استقلالية بنك المغرب؛ فالمؤسسة ليست مجرد بنك، بل هي الضامن لصورة المغرب لدى المانحين الدوليين ووكالات التنقيط. إن أي محاولة لـ "تسييس" هذا المنصب قد تفتح الباب أمام اهتزاز الثقة في العملة الوطنية وفي التوازنات الماكرو-اقتصادية.
في الختام، يغادر الجواهري وفي جعبته "شهادة استحقاق" من التاريخ، ليبقى السؤال المعلق في ردهات المؤسسات بالرباط: هل سيظل بنك المغرب "الاستثناء" الذي يرفض الخضوع لمنطق الغنائم الحزبية، أم أن رياح التغيير ستحمل معها نهجاً جديداً يخلط بين السياسة والنقد؟
