يواجه القطاع الفلاحي المغربي اليوم واحدة من أكثر اللحظات حرجاً في تاريخه الحديث، بعدما كشفت تقارير رسمية من وزارة الزراعة البرازيلية عن إتمام مفاوضات لتصدير كميات ضخمة من "التبن" إلى المملكة. هذا المعطى الصادم لا يمثل مجرد عملية تجارية عابرة، بل يشكل في عمقه إدانة مباشرة لسنوات من تدبير القطاع تحت مظلة "المخطط الأخضر"، الذي بات يوصف في الأوساط الشعبية بـ"المخطط الأسود".
ارتهان للخارج في أبسط المقومات:
أن يصل المغرب، الذي سُوّق لسنوات كنموذج فلاحي رائد في إفريقيا، إلى مرحلة استيراد "التبن" من وراء البحار بمليارات الدولارات، هو اعتراف ضمني بانهيار السيادة العلفية. فوفقاً لبيانات المصدر، بلغت قيمة صادرات التبن البرازيلي نحو الأسواق الدولية، ومن بينها المغرب، نحو 3.8 مليارات دولار خلال عام واحد، مما يضع علامات استفهام كبرى حول جدوى المليارات التي التهمها المال العام باسم تحديث الفلاحة الوطنية.
إرث أخنوش تحت المجهر:
تتجه أصابع الاتهام مباشرة إلى السياسات التي نهجها عزيز أخنوش طيلة ولايته على رأس وزارة الفلاحة، وهي السياسات التي استمرت حتى بعد انتقاله لرئاسة الحكومة. ويرى مراقبون أن التركيز على "فلاحة التصدير" والمنتجات الموجهة للاستهلاك الأوروبي جاء على حساب "الفلاحة المعيشية" وتأمين القوت اليومي للمواطن والقطيع الوطني. والنتيجة هي تحول الوزارة من "منتج للحلول" إلى "وسيط للاستيراد"، يفتح الباب على مصراعيه للأبقار واللحوم والأعلاف البرازيلية لاستنزاف العملة الصعبة.
تهميش الفلاح الصغير وإغناء اللوبيات:
لم ينجح المخطط الأخضر في حماية الفلاح الصغير من وطأة الجفاف وغلاء الأعلاف، بل تركه وحيداً يواجه مصيره، بينما استفادت لوبيات "الريع الفلاحي" من الدعم المخصص للاستيراد. إن تحول المغرب إلى ثاني أكبر مستورد للأبقار البرازيلية في إفريقيا يعكس عمق الأزمة الهيكلية التي يعاني منها القطيع الوطني، وهي أزمة لم تكن يوماً قدراً طبيعياً، بل نتاج غياب رؤية استباقية تحمي المنتج المحلي.
التبعات الاقتصادية والاجتماعية:
إن "فضيحة التبن" ليست مجرد تفصيل تقني، بل هي أصل الداء في غلاء أسعار اللحوم والحليب التي تكتوي بنارها الأسر المغربية. فغياب العلف الوطني يعني بالضرورة ارتهان أسعار البروتين الحيواني لتقلبات السوق الدولية وتكاليف الشحن من أمريكا اللاتينية، وهو ما يدفع ثمنه المواطن البسيط في مائدته اليومية.
يبقى التساؤل الملح: متى ستتم المحاسبة السياسية والاقتصادية على فشل مخططات استهلكت المليارات ولم تنجح حتى في تأمين "تبن" يحفظ كرامة القطيع الوطني؟ إن استيراد الأعلاف من البرازيل هو شهادة وفاة رسمية لنموذج فلاحي بُني على الورق وانهار عند أول اختبار حقيقي للأمن الغذائي.
